Obiturary

Lokman Slim, 1962-2021

 

الحقيقة بوصفها استفزازاً

 

في رثاء صديقنا وشريكنا لزمن مديد الناشط والصحافي والناشر والمثقف لقمان سليم الذي اغتيل في 3 شباط 2021

 

أربع طلقات نارية في الرأس وواحدة في الظهر، هذا هو الوصف التقني البشع لإعدام لقمان سليم بتاريخ 3 شباط. مقتله كان اغتيالاً سياسياً استهدف إنساناً تعاون معه العديد من الزملاء والزميلات في مؤسسة ميديكو عبر سنوات طويلة.

لقمان سليم كان ذا خبرة لا مثيل لها، لذلك كان لا يحب الأجوبة السهلة. عندما تحدث، تجاوز في ما كان يذهب إليه آفاق التصورات التقليدية عن العالم والحدود المترسخة والثوابت الزائفة. قدّم لقمان فكرة كونية عن لبنان والمنطقة، فكرة تعارض ثقافة العنف والعداء. كان مثابراً في قناعته بأنه لا يمكن تفكيك الصور النمطية والعداوات الجامدة إلا إذا تعامل الجميع مع حقائق يرونها غير مريحة.

كشف لقمان عن تلك الحقائق بتفكيره المستنير، وبحث عن حقائق من الماضي، خاصة تلك المتعلقة بالحرب الأهلية اللبنانية، ببحث مضنٍ عن آثارها. لم يترك لقمان حجراً إلا وقلبه، وكان منطلق عمله لأجل حفظ الذاكرة فريداً في العالم العربي. ظل يردد قوله: "استراتيجية النسيان محكومة بالفشل لا محالة"، دون أن يبالغ بشأن نتائج عملية التذكّر أيضاً. فأسّس بالتعاون مع شريكته وزوجته مونيكا بورغمان في صيف عام 2004 مبادرة "أمم للتوثيق والأبحاث" التي تهدف إلى معالجة تجربة الحرب اللبنانية.

بدأ التعاون بين "أمم" و"ميديكو" في 2005 تزامناً مع الذكرى الثلاثين لاندلاع الحرب اللبنانية. إلا أن الحرب ليست مجرد ماضٍ، بل كانت ولا زالت جزءاً من الحاضر اللبناني، لذلك انصبّ اهتمام لقمان عليها دوماً. كان النموذج اللبناني، أي "العفو المتبادل" في نهاية الحرب، أشبه بـ"نسيان عام" وتجاهل مقصود.

ما هي القصص المسموعة وأي القصص هي التي لا تُسمع؟ كيف تتم فردنة تبعات العنف السياسي، وكيف يمكن وضع معالجة الماضي والذاكرة في سياق سياسي من جديد؟ كانت تلك هي منطلقات عمل لقمان الذي كان قد بدأ حتى قبل تأسيسه "أمم" بإنشاء أرشيف شامل للحرب اللبنانية، يُعتبر الوحيد من نوعه إلى اليوم، وقد جهَدَ للحفاظ عليه. فعندما استهدفت القنابل الإسرائيلية جنوب بيروت أثناء حرب إسرائيل مع حزب الله لمدة أسبوعين في عام 2006، بات إنجاز حياة لقمان سليم في خطر، وتم إجلاء الأرشيف وسكان العمارة مؤقتاً، بعد أن أحدثت موجات الضغط الجوي خراباً في العمارة المجاورة للمركز.

مواجهة التاريخ ووقائعه كانت إنجاز حياة لقمان سليم، علماً أنه كان جزءاً من ذلك التاريخ وساهم فيه بصفته ابناً لعائلة شيعية ثرية ومحترمة من جنوب بيروت، وكمثقف درس في جامعات فرنسية كغيره من أصحاب طبقته في لبنان، وكمؤسس دار نشر مهمة في بيروت أدارها إلى حين مقتله. ولكن قبل كل شيء كان صحفياً وسياسياً وفناناً ظل يتدخل في الشأن العام ليؤثر على مسار تاريخ بلده.

ولم تكن الأماكن التي شهدت تدخلاته أقل أهمية من تدخلاته نفسها، فقد كانت الضواحي الجنوبية لبيروت التي تحولت أثناء الحرب وبعدها إلى معاقل شيعة لبنان وحزبيها الكبيرين أمل وحزب الله حتى 2005 بمثابة "مناطق محرمة" بالنسبة لليبراليي الطبقة الوسطى والعليا للعاصمة اللبنانية. ولكن هناك بالذات عاش لقمان، وهناك أنشأ مركزه "أمم" ونظم فيه منتديات علنية بشكل دوري. كان هدف "أمم" تجاوز الحدود المرئية وغير المرئية، وذلك في اتجاهين: جذب الطبقة الميسورة إلى "الهنغار" لتشاهد معارض وأفلاماً وتشارك في نقاشات، كما نظّم "أمم" فعاليات في وسط بيروت لشباب من الضواحي لا يمكنهم السكن في الأحياء الثرية والمزدهرة للعاصمة بعد الحرب.

كما أشارت الأفلام التي أنجزتها مونيكا بورغمان لمركز "أمم" هي الأخرى إلى ما لا يريد أحد في لبنان النظر إليه. في فيلمهما الأول "مقتلة" طرح الشريكان موضوع المجازر التي ارتُكبت ضد الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا عام 1982. يتكون الفيلم من سلسلة طويلة من الشهادات الذاتية لجناة من ميليشيات "الكتائب" لم يحاسَب أحدهم على أفعاله يوماً، يشهدون في ذلك الفيلم الوثائقي الصعب التحمل بطريقة باردة، بل بفخر أحياناً، كيف ساهموا في المجازر، دون أن يُكشف عن هوياتهم. يقول أحدهم في الفيلم الذي حصل على جائزة من مهرجان برلين السينمائي 2005: "إيقاظ الذاكرة بمثابة إصدار حكم وتنفيذه في آن". كان لقمان سليم يعيش على بعد كيلومتر واحد فقط من المخيمات في حارة حريك جنوب بيروت، وكان ذلك مما دفعه ليستكشف ما الذي جعل أشخاصاً من جواره المباشر يقتلون فيما هم مسكونون برغبة الدم.

أما فيلم مونيكا ولقمان الأخير فقد دخل حيزاً من الصمت يعتبر من النوع القاتل أحياناً في لبنان، حيث حققا في مصير لبنانيين اقتادتهم إلى سوريا ميليشيات مؤيدة لها أو اختطفهم الجيش السوري نفسه أثناء الحرب، وسُجنوا هناك. واللافت أنه بينما احتُقل علناً بكل لبناني تقريباً سُجن في سِجن إسرائيلي أثناء احتلال إسرائيل جنوب لبنان، فُرض الصمت على السجناء اللبنانيين في السجون السورية، مما جعلهم منبوذين لا اسم لهم ولا تاريخ. ومزّق فيلم "تدمر" حجاب الصمت ذاك، والذي يشير بعنوانه إلى سجن تدمر الذي يعتبر من أسوأ سجون تعذيب الأسد في سوريا. إنه مكان خالٍ من الزمن يرمز إلى الأذى والإهانة المطلقة. وجد مونيكا ولقمان بعض أولئك السجناء السابقين القلائل الذين نجوا من ذلك الجحيم، ومنحاهم الفرصة ليتحدثوا عن تجربتهم بين بعضهم البعض وبشكل علني.

في السنوات الأخيرة أصبح "ميديكو" جزءاً من "منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية" الذي بادر إليه لقمان أيضاً، وهو شبكة إقليمية من المنظمات والجمعيات والفنانين والمحامين والصحفيين. يُعنى المنتدى بدراسة التاريخ والحاضر الوحشيين للسجن والتعذيب في العالم العربي وبتحديد استراتيجيات مضادة. واتضحت في هذا المشروع أيضاً الأهداف السامية لأفكار لقمان، حيث يجمع المنتدى ناشطين وناشطات مع تجاربهم ويُعارض وسائل سلطات سياسية قد تختلف في أشكالها ومدى عنفها، لكنها تتبع نفس المبدأ، وهو القمع والاستبداد المطلقان.

من يقوم بمثل هذه النشاطات في لبنان يعيش في خطر، وكان لقمان يعرف ذلك. إلا أن أولوياته لم تكن أمانه الشخصي. أصبح معروفاً في الغرب كمنتقد صريح لحزب الله، لكنه لم يهدف في ذلك إلى الدفاع عن مفهومه العلماني للسياسة والمجتمع فقط، بل انتقد حزب الله لأنه يجعل طائفته "رهينة" له، وهو ما تفعل أيضاً بقية القوى السياسية الطائفية في لبنان.

كان لقمان سليم شريكاً ورفيق درب لـ"ميديكو" لمدة طويلة، والعديد منا عرفه شخصياً. تعلمنا منه ومن مونيكا بورغمان أنه لا يجوز أن نتناسى نزعات التسلّط لدى بعض نخب الجنوب، عندما نشكو الظلم في العالم. فبعض خطابها المناهض للامبريالية ينطوي على تطرف ديني يتفشى أكثر فأكثر في ميله إلى العنف والتوحّش في ظل تدهور طوباويات الحرية العلمانية.

كما تعلمنا من أشخاص أمثال لقمان أنه لا يجوز أن نتمسك بمواقف سياسية مريحة وأن نصون كليشيهاتنا حول أعدائنا، بل أن التحرر يقع في "البرزخ" الفاصل بين المواقف المعهودة. وإذ يبدو لنا هذا الموقف غير مريح، كحد أقصى، فهو قد يعرّض حياة زميلاتنا وزملائنا في الجنوب إلى خطر مباشر. لقد أُغرق لقمان بالتهديدات بالقتل لسنوات، وكان يعرف جدية تلك التهديدات، لكنه لم يصمت. بل شارك في احتجاجات لبنان في خريف عام 2019 ونصب خيمة في ساحة الاحتجاج في بيروت، إلى أن اخترقها حزب الله ودمر الموقع.

ننعى شريكنا ورفيق دربنا لقمان سليم وننعى إنساناً فريداً وذكياً وجريئاً ومرحاً وملهماً، وسنشتاق إليه.

إن اغتيال لقمان لم يكن الوحيد من نوعه في الآونة الأخيرة في لبنان، فقد مات الكثير من الأفراد في الأشهر المنصرمة، أكان ذلك بالقتل عمداً أو بسبب الإهمال المنظم للنخب الذي أدى إلى كارثة انفجار مرفأ بيروت. وإلى الآن لم يحاسَب أحد على تلك الجرائم وقتل ضحاياها، وليس من قبيل الصدفة أن يُهتز المجتمع اللبناني والحراك المدني من جديد باغتيال لقمان بعد ستة أشهر من وقوع تلك الكارثة.

لقد أوقف لقمان حياته للكفاح من أجل تغيير حقيقي وجذري للبنان، كيلا يبقى بلداً يتم فيه القتل بلا حساب. وهو بالرغم من ذكائه ونظرته الواقعية لم يتخلَّ يوماً عن تلك الآفاق والآمال بمستقبل عادل وسلمي للمنطقة. وعندما يأتي ذلك المستقبل لن نكون قد نسينا مساهمة لقمان في تحقيقه.

 

ترجمة: غونتر أورت

 

 

Published: 08. February 2021

Donate Now!